لقد شكل إحداث مؤسسة “ديوان المظالم ” عن حق، إحياء لتراث مؤسسي عريق يجد أصوله في ولاية المظالم، واستفادة معلنة مما توفره النظم المعاصرة في هذا الموضوع من آليات تنهل من القيم المثلى للتراث الإنساني المشترك، كما شكل في إبانه حدثا هاما في إرساء دعائم مؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة، مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقة بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون، وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية.
مؤسسة واصلت توجهها التطوري في صورة وسيط المملكة التي ارتقت عبر مراحل تطورها من هئية قانونية وطنية إلى مؤسسة دستورية، ولتصبح نموذجا حداثيا عريقا يواكب العصر ضمن إطار قانوني يستمد فلسفته من مقتضيات الدستور التي وطدت توجه التحديث بحمولة حقوقية نوعية، أساسها تكريس ما تراكم من مكتسبات، ودعم قدراتها لمواجهة مستجدات التجاوزات التي قد تصدر عن الإدارة، وتأهيلها لممارسة صلاحيات واسعة، كآلية بديلة لحل النزاعات الإدارية، وتقديم كل اقتراح يذكي مبادرات الإصلاح التشريعي والإداري، ويترجم إرادة تنمية تواصل فعال بين الإدارة والمواطن في التزام تام بضوابط سيادة القانون ومبادئ العدل والإنصاف.
ويأتي هذا اللقاء الدولي الذي يجتمع حوله تلة من أمناء المظالم والفاعلين الحقوقيين، لتجسيد الحرص المؤسساتي على استحضار المحطات الأساسية التي عرفها تاريخ المؤسسة، من خلال تخليد الذكرى العشرينية لإحداثها.
وهي مناسبة للتذكير بما تمثله كمكتسب حقوقي في مجال دعم مقومات “الإدارة الرشيدة” ضمن مسار متكامل من الإصلاحات السياسية والقانونية والمؤسساتية التي بوشرت في العهد الجديد، وما عرفه من وسعي حثيث لتطوير وتحديث المؤسسات المكلفة بحماية الحقوق وصيانتها.
كما تسعى المؤسسة إلى جعل هذا التخليد مناسبة لتقييم الإنجازات التي حققتها، على مدى عقدين، في مجال تسوية المنازعات خارج دائرة القضاء، وإعمال الوساطة كوسيلة بديلة تبدع حلولا عملية منصفة لإحقاق حقوق المرتفقين في نزاعاتهم مع المرافق العمومية وفق قواعد العدل والإنصاف.
ولأن الحرص معقود على جعل هذه المناسبة فرصة تجسد انفتاح المؤسسة على محيطها الدولي، وتواكب التوجهات الحديثة، وانخراطها في المقاربات والممارسات الحقوقية والتنموية العالمية، بما تمثله من تعزيز لدور الوساطة وتثبيت ثقة المرتفقين في أدائها، فإن مؤسسة وسيط المملكة ارتأت أن يأخذ تخليد هذه الذكرى التي شرفت بالرعاية السامية لصاحب الجلالة نصره الله، بعدا دوليا، يمنح الحدث إشعاعا يليق بمكانة المملكة المغربية في الفضاء الحقوقي الدولي، ويعكس دور مؤسسة وسيط المملكة على مستوى المؤسسات المماثلة لدى باقي دول العالم وشبكاتها.
إن التحولات التي عرفتها مؤسسة وسيط المملكة، واكبت تحولاً أوسع نطاقا هم مؤسسات الوسطاء والأمبودسمان عبر العالم، تجسد أساسا في القرار الأممي المتعلق بـ”دور مؤسسات أمناء المظالم والوسطاء في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها والحكم الرشيد وسيادة القانون، الذي لعبت فيه مؤسسة وسيط المملكة رفقة بعض الشركاء من المعهد الدولي للأمبودسمان دورا محوريا، وتكلفت الديبلوماسية المغربية بتقديمه والترافع من أجله لدى مكونات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومن هنا جاء عنوان هذا اللقاء المتمثل في ” ضمان البعد التنموي لفعلية حقوق الإنسان في السياسات العمومية: أي دو ر للوسطاء والأمبودسمان؟” وفقاً لمحاوره العلمية الثلاثة على النحو الذي سيأتي بيانه. محاور أريد لها أن تسلط الضوء على انخراط الوسطاء في عملية تحقيق التنمية المستدامة بناء على تدخلات ترمي الى الحق في التنمية في مختلف تجلياتها وتأثير ذلك على السياسات العمومية وابراز مجمل تداعيات هذا التطور من منظور حقوقي.
وهي فرصة تسعى من خلالها مؤسسة وسيط المملكة إلى تعميق النقاش الحقوقي بين الوسطاء وأمناء المظالم المنتمين لأنظمة قانونية مختلفة، وبين فاعلين وباحثين جامعيين، هدفهم الكشف عن مجالات العمل المشترك لمواكبة مختلف التطورات التي تشهدها الوساطة المؤسساتية من زوايا مختلفة، بما يحقق رسالتها السامية القائمة على خدمة المجتمعات الإنسانية.
هذا بالإضافة إلى تقييم المكانة الأممية لهذه المؤسسات تحقيقاً للتطور الحقوقي الذي يسعى إليه مجتمع الوسطاء.
لذا ينتظر أن يتناول المشاركون، في لقائنا هذا، بالنقاش المحاور الآتية:
– المحور الأول: البعد التنموي في تدخلات الوسطاء والأمبودسمان، ويتناول هذا المحور ثلاث موائد مستديرة خصصت الأولى لتسليط الضوء على دور الوسطاء وأمناء المظالم في توجيه الإدارة العمومية نحو إدارة حاضنة لجهود التنمية المستدامة،
وخصصت المائدة المستديرة الثانية لدور الوسطاء في حماية حقوق الأجيال القادمة (الحقوق عبر الأجيال) باعتبار ذلك أحد تجليات الرؤية الاستشرافية للوسطاء والأمبودسمان في بعدها التنموي، هذا فضلا عن مائدة مستديرة ثالثة ستخصص لدور مؤسسات الوسطاء والأمبودسمان في دعم فضاء الاستثمار باعتباره رافعة مهمة للنمو الاقتصادي.
– المحور الثاني: دور الوسطاء والأمبودسمان في توجيه السياسات العمومية نحو فعلية الحقوق، ويهتم هذا المحور ببيان موجبات فعلية الحقوق الارتفاقية في ظل التحولات المعاصرة من خلال ثلاث موائد مستديرة، خصصت الأولى لبحث موضوع حكامة رقمنة الخدمات العمومية باعتبارها ضمانة أساسية لفعلية الإنصاف الارتفاقي، وخصصت المائدة المستديرة الثانية لدور الوسطاء في تتبع وتقييم السياسات العمومية في ظل الأزمات من خلال الوقوف عند أهم الرهانات والتحديات التي يطرحها الموضوع وأيضا الآفاق المستقبلية للتعامل مع هذه التحديات، وفي مستوى آخر خصصت المائدة المستديرة الثالثة لمناقشة التصورات المشتركة للنموذج الارتفاقي الجديد الذي فرضته الأزمات والمستجدات المعاصرة باعتبارها تحد جديد للوسطاء والأمبودسمان في مجال تعزيز منظومة القيم والأخلاقيات الإدارية على ضوء هذه المتغيرات.
– المحور الثالث: أبعاد القرار الأممي75 -186 حول ” دور مؤسسات أمناء المظالم والوسطاء”: من أجل تصور مشترك لآليات تفعيل القرار المذكور، وسيتم تناول هذا المحور من خلال ثلاث موائد مستديرة تخصص الأولى لدور مؤسسات الوسطاء والأمبودسمان في ضمان احترام سيادة القانون وتحقيق العدل والإنصاف باعتبارها مهاما مستقلة بأبعاد مترابطة في رسالة أمناء المظالم من خلال مقتضيات القرار الأممي المذكور؛ وتترك الثانية لمناقشة الآليات والمبادرات الواجب اتباعها على المستويين الدولي والإقليمي لجعل موقع مؤسسات الوسطاء والأمبودسمان أكثر مرئية داخل المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، كما خصصت الجلسة الثالثة لمناقشة القرار الأممي 186/75 من زاوية اعتباره مرجعية تطويرية للوساطة المؤسساتية في أبعادها العامة، ومن زاوية الانتظارات المتوقعة والآفاق التي يفتحها لما فيه تقوية مؤسسات الوساطة.
كل ذلك وفق البرنامج المفصل بعده.